أفكار ومفاهيم المجتمع المسلم
د. يوسف القرضاوي
كما يتميز المجتمع المسلم بعقائده وشعائره، يتميز كذلك بأفكاره ومفاهيمه وتصوراته فالمجتمع المسلم تسوده أفكار ومفاهيم تحدد وجهة نظره إلى الأشياء و الأحداث والأشخاص والمواقف, والقيم والعلاقات. فهو يحكم على هذه الأمور كلها من زاوية الإسلام, وهو لا يستمد حكمه, ويستقي وجهة نظره إلا من مصادر الإسلام النقية, المصفاة من الشوائب والزوائد, التي تمثل رواسب العصور, وتؤكد التحرر من غلو الغالين, وتقصير المقصرين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين.
لقد حرص الإسلام منذ طلوع فجره على أن يصحح مفاهيم أبنائه, حتى تستقيم نظرتهم إلى الأمور والواقف, ويتحد تصورهم العام للأشياء والقيم . فلم يدعهم لشطحات الفكر, ولا انحرافات الهوى, فيزيغوا عن ا.لقصد, ويضلوا عن سواء الصراط , وتتفرق بهم سبل الباطل عن سبيل الحق. ولهذا دأب القرآن, كما د أبت السنة, على تصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة, والتصورات المنحرفة, التي تشيع في أذهان الناس.
فهم بعض الأعراب أن الإذعان مجرد إعلان وتظاهر، فنزل القرآن يصحح هذا المفهوم يقول " قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ".. إلى أن قال " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (الحجرات:14 ، 15) وأشاع بعض أهل الكتاب من اليهود: أن البر أو التقوى هو الاهتمام برسوم معينة، وشكليات خاصة، ولهذا أقاموا الدنيا وأٌقعدوها حين تحول الرسول من بيت المقدس إلى الكعبة، وجعلها الله له قبله، فنزل القرآن يبين حقيقة البر والتقوى والدين الحق فقال "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"(البقرة:177)
وحسب بعض الناس أن طريق الإيمان إلى الجنة مفروش بالأزهار والرياحين لا فتنة فيه ولا اضطهاد ولا عذاب، فنزل القرآن يدرأ هذا الوهم، ويخطئ هذا الفهم إذ يقول " آلم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" (العنكبوت (1-3).. ويقول " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران:142).. " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة:214).
وتصور بعض الناس أن من قتل في سبيل الله قد مات، كما يموت الآخرون من البشر فينفي القرآن هذا الحسبان ويضع مفهوماً جديداً إذ يقول " وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ" (البقرة:154) ، " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران:169). ومن الناس من يحسب أن التغيير المادي سبب التغيير في عالم النفس، فيقرر القرآن عكس ذلك، ويبين أن التغيير الروحي والمعنوي هو الأصل والأساس " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11)
ويصحح القرآن فكرة الناس عن الفوز والفلاح والخسران, فينقلها من دائرتها الضيقة في عقول جماهير الناس: الدائرة المادية الدنيوية العاجلة إلى دائرة أرحب وأخلد وأبقى , فيقول: " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور" (آل عمران:185)، " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ" (الأعلى:14-15) ، " قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" (الزمر:15) ويظن فريق من البشر أن النساء شياطين خلقن لغواية الرجال, وأن المرأة لعنة مجسمة وفتنة تمشى على الأرض, فينفى القرآن هذا الظن, ويقول " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم:21).
ويعتقد فئة من الناس أن الظلمة والنور أثران لإلهين مختلفين يصطرعان حتى تكون الغلبة في النهاية لأحدهما, فيبين القرآن أنهما أثران لخالق واحد وإله واحد " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور" (الأنعام:1) ، " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ً" (النبأ: 10-11 ) ، " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ" (القصص:71).
وهكذا ظل القرآن الكريم 23 عاماً يبين الحقائق ويزيف الأباطيل، ويصحح التصورات والمفاهيم. وجاءت السنة النبوية فكانت البيان والتفسير النظري والعملي للقرآن، وظل الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يصحح ويوضح، ويبني ويهدم حتى استقام للمجتمع المسلم تصوره، واتضحت مفاهيمه وأصبح على بينة من ربه وبصيرة من أمره، كما خاطب الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم) " قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108)
وصحح النبي (صلى الله عليه وسلم) مفاهيم كثيرة جداً لعل أهمها مفهوم الإيمان، فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، " ليس بمؤمن من بات شبعان وجارة جائع"، "الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" إلى أحاديث كثيرة جمعها أحد الأئمة ( البيهقى ) في مؤلف ضخم باسم " شعب الإيمان ",
ويضع الإسلام مفهوماً جديداً في قبول الأعمال, في فيربطها بمقاصدها ونياتها الباعثة عليها ويجعل موضع نظره هو القلب لا الجوارح " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهى القلب".
ويبين حقيقة الغنى فيقول " ليس الغنى عن كثرة العرض, إنما الغنى غنى النفس".
وحقيقة القوة, فيردها إلى قوة النفس لا إلى قوة الجسم " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". وحقيقة المسكنة والمسكين, وينفى الصورة الفاشية عند جمهور الناس عن المسكين فيقول: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان, ولا اللقمة ولا اللقمتان, إنما المسكين الذي لا يجد عن بقية ولا ينظر له فيتصدق عليه, ولا يقوم فيسأل الناس". وفى رواية " إنما المسكين المتعفف". واقرءوا إن شئتم " لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا" (البقرة:273). ويبين الرسول ( صلى الله عليه وسلم) مقياس التفاضل بين الناس أفرادا´ وجماعات, وحصره في الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
ورد المفاهيم الشائعة, من اعتبار الزينة, والجاه أو المال والغنى , أو الجنس والنسب, أو الضخامة والفخامة, أو ما شابه ذلك من مقاييس مادية دنيوية, " فرب أشعث مدفوع بالأبواب, لو أقسم على الله لأبره"، ورب فقير خير من ملئ الأرض من غنى مشهور , " ولا فضل لعربي على أعجمي , ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى"، "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، "يأتي الرجل العظيم السمين عندي يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة". ويبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) اختلال المقاييس في آخر الزمان فيقول " يأتي على الناس زمان يقال للرجل فيه: ما أظرفه, وما أعقله, وما أجلده, وما في قلبه مثقال حبة من إيمان".
أفكار الإسلام ومفاهيمه وتصوراته هي التي تعمل وحدها في المجتمع المسلم , وتسيطر على عقول بنيه, وتوجه أدبه وفنه, وثقافته وإعلامه, وتربيته وتعليمه. فكرة الإسلام عن الإنسان, وعن الحياة والدنيا, وعن المال والغنى والفقر, وعن التدين والبر والتقوى, وعن العدل والإحسان, وعن التقدم والتأخر, وعن التحضر والتخلف, وعن الزهد والقناعة, وعن الصبر والرضا.
فكرة الإسلام عن الرجل والمرأة والعلاقة بينهما.
فكرة الإسلام عن الغني والفقير والعلاقة بينهما.
فكرة الإسلام عن الحاكم والمحكوم والعلاقة بينهما.
فكرة الإسلام عن الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما .
هذه الأفكار وما شابهها يجب أن تكون هي الموجهة للمجتمع المسلم، المهيمنة عليه, دون غيرها من الأفكار والتصورات. وذلك لأن أفكار الإسلام ومفاهيمه هي وحدها المستقاة من المصدر الإلهي المعصوم فمصدرها " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود:1) وسنة رسول لا ينطق عن الهوى "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ" (النجم: 4 ).
ونتيجة لذلك كانت هذه الأفكار وحدها هي التي تتسم بالشمول والعمق والتوازن في تقويمها للأمور, ونظرتها إلى جميع العلاقات. ففكرة الإسلام عن الحياة هي الفكرة المتوازنة المعتدلة, التي تجعل الدنيا مزرعة للآخرة, وطريقا إلى دار الخلود, والطريق يجب ألا يشغل عن الغاية التي إليها تشد الرحال, ولكنه يجب أن يكون مريحا مزدانا بالأشجار والظلال, حتى يهون اجتيازه بمراحله على المسافرين.
فليست هي الفكرة المتشائمة القائلة: إن الحياة لعنة, وأن العالم شر, وينبغي التعجيل بفنائه بالتبتل والرهبانية والانقطاع عن الزواج, وعن الطيبات, كما يقول المذهب المانوي في فارس, وكما مارس ذلك رجال الرهبانية, في النصرانية, والفقراء في الهندوسية. وليست هي الفكرة الدهرية الملحدة, التي مضمونها: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، أرحام تدفع وأرض تبلع, وليس وراء ذلك بعث ولا حساب ولا جزاء.
وفكرة الإسلام عن الإنسان هي الفكرة المتوازنة المعتدلة, التي تنظر إليه على أنه مخلوق مكرم ذو طبيعة مزدوجة, فهو جسم وروح, أو هو روح يسكن في غلاف من الجسم, كما قال تعالى في خلق الإنسان الأول " إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (ص:70-71) ويجب أن يعطى الجسم حقه، والروح حقه من شريعة الإسلام.
فليست هي الفكرة المادية القائلة: إن الإنسان ليس إلا هذا الجسم بأجهزته وأعضائه، بلحمه ودمه وأعصابه وغرائزه ودوافعه، وليس وراء الجسم شيء آخر، فهي تنظر إلى الإنسان كما تنظر إلي العالم، فالعالم مادي ولا إله له، والإنسان مادي ولا روح فيه.
وليست هي الفكرة الروحية المسرفة التي تقول: إن الجسم شر ورجس، وإن الروح وحدها هي محل الطهر والسمو، فلا نجاة للإنسان، ولا خلاص إلا بتعذيب النفس وحرمانه ليتسنى للروح أن تصفو وتترقى وتتزكى. فليس بمجتمع مسلم صحيح الإسلام إذن: ذلك المجتمع الذي يشيع فيه مفهوم الحياة، كما هو عند الغربيين، ولا كما هو عند البوذيين. وليس هو الذي يتصور الإنسان تصور الروحيين المتشائمين، ولا تصور المادين المسرفين.
وليس بمجتمع مسلم صحيح ذلك الذي يفهم التقوى على أنها ترقع، ولحية تعفي ومسبحة تدار في اليد.. وإن لم يكن وراءها علم نافع ولا قلب خاشع ولا عمل صالح. وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يفهم التدين على أنه مجرد أداء الشعائر من صلاة وصيام وحج وعمرة.. ولإن كان يتعامل بالربا في تجارته، أو يدع المرء فيه زوجته مكشوفة الذراعين والساقين، أو يدع أولاده في المدارس التبشير والتنصير، أو يتركهم فريسة للمربيات الكافرات أو الفاسقات..
أو يرى المنكر ضارباً أطنابه في كل مكان، والفساد ناشراً ظلامه على كل وضع، وهو يقول: نفسي نفسي! مغفلاً فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد لمقاومة الباطل. وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يشيع فيه مفهوم العدل الاجتماعي على أنه نهب القناطر المقنطرة، ثم التصدق بدريهمات أو دوانق على بعض الفقراء والمحتاجين , مما جعل بعضهم يفهم خطأ عدالة الإسلام فيطلق عليها اسم " اشتراكية الصدقات".
وليس العدل أيضا هو نهب الأموال المملوكة - ملكية مشروعة من أصحابها الأغنياء - بزعم إعطائها للفقراء, وإن لم يصل إلى الفقراء منها نقير ولا قطمير , فهذا المفهوم - كذلك - للعدل الاجتماعي مفهوم خاطئ دخيل على فكرة الإسلام .
وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي ينظر إلى الفقير والغنى نظر الصوفي القائل: " إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين , وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجلت عقوبته"! وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي ينظر إلى المرأة على أنها أحبولة الشيطان وأخت إبليس, وأنها هي التي أخرجت آدم من الجنة - كما تزعم التوراة , وكما يعتقد اليهود والنصارى - وكما يظن للأسف كثير من المسلمين بحكم الثقافة المسمومة التي تلقوها في المدارس أو من أجهزة الإعلام .
وليس هو أيضا الذي يشيع فيه ذلك المفهوم الخاطئ عن مساواة الرجل بالمرأة مع أن فطرة الله خالفت بينهما , وجعلت للرجل القوامة , والمسؤولية "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (النساء:34)
إن الأفكار والمفاهيم التي تشيع في المجتمعات المنتسبة إلى الإسلام اليوم ألوان وأنواع شتى:
( ا ) بعضها من بقايا القيم والتعاليم الإسلامية الصحيحة, التي لا يزال لها أثرها في كثير من الأنفس والعقول, وخصوصاً بعد أن قام للإسلام دعاة وأعوان في بلاد شتى, يشرحون رسالته شرحا يرد إليها فطريتها وشمولها، ويدرأ الشبهات عنها.
( ب ) وبعضها من رواسب العصور الأخيرة التي تخف فيها الفكر الإسلامي في مختلف المجالات, ففقد الأصالة والإبداع, وأغلق باب الاجتهاد, وأصيب المسلمون بسوء الفهم للإسلام, كما ابتلوا بسوء التطبيق له كذلك.
( ج ) وبعضها من الروافد الأجنبية التي زحفت على ديار الإسلام , مع الاستعمار, والذي كان أكبر همه أن يغير أفكار المسلمين وتصورا تهم وأذواقهم , ليسهل عليه بعد ذلك لي زمامهم إلى الوجهة التي يريد.
وواجب المجتمع المسلم أن يطارد كل المفاهيم التي لا تستمد من الإسلام الصحيح, سواء أكانت من رواسب التخلف والانحراف عن الإسلام أم من الأفكار الغازية الوافدة مع المستعمر الغربي.
فمن النوع الأول فكرة كثير من المسلمين في كثير من الأقطار عن المرأة وعلاقتها بالرجل, ونظرتهم إليها باعتبارها مخلوقا ناقصا أو خطرا, يجب أن تظل حبيسة البيت حتى يؤويها القبر, لا ترى رجلا , ولا يراها رجل, ولا تخرج لعبادة أو عمل صالح أو علم نافع.
ومن النوع الثاني فكرة كثير من المسلمين, العصريين الذين تثقفوا بثقافة الغرب, بطريق مباشر أو غير مباشر, فاعتبروا خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها, من الحقوق المشروعة, ويعدون اختلاطها بالرجال الأجانب - بغير قيد ولا تحفظ - من الحرية المطلوبة. ويعتبرون القول بغير ذلك ضربا من الرجعية في التفكير, والتطرف في السلوك! والأفكار الأجنبية الدخيلة الآن هي التي تقلب وتسود لدى جمهور المتعلمين من خريجي الجامعات وغيرها. ومن أخطر المفاهيم التي لقنها إياهم الغزو الثقافي هو : مفهوم "الدين" كما يتصوره الغربيون.
فمفهوم الإسلام عن " الدين" دائرته ومداه، غير المفهوم السائد عند الغربيين حتى المتدينين منهم, إنه عندهم مجرد علاقة بين ضمير الإنسان وربه, لا علاقة له بشؤون الدولة وأنظمة المجتمع, ولهذا قامت الحياة الحديثة هناك على أساس الفصل بين الدولة والدين.
أما الإسلام فهو في نظر المسلمين منهج شامل ينظم شؤون الحياة كلها: من قضاء الحاجة إلى قيام الدولة, ومن أدب الأكل والشرب إلى نظام الاقتصاد وسياسة الحكم, ومن الصلاة والصيام إلى شؤون الحرب والسلم والعلاقات الدولية.
والشريعة الإسلامية هي الحاكمة على جميع أفعال المكلفين, لا يخرج قول ولا عمل عن سلطانها, وكل عمل صادر عن مكلف لا بد أن تعطيه الشريعة حكمه من الوجوب, أو الاستحباب أو الحرمة, الكراهة أو الإباحة, ومهمة الشريعة هي إخراج المكلف من اتباع داعية هواه إلى التقيد بأحكام الله.
ومصادر الشريعة فيها الوفاء كل الوفاء بتغطية جميع الوقائع والأحداث التي تمر بالبشر, بحسب ما احتوت من أصول وقواعد ونصوص.. "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل:89).
وقد كان الواقع التطبيقي للإسلام شاهداً معه على هذه الفكرة, فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو المبلغ عن الله, والقائم بأمر الدين, وهو إمام المسلمين ورئيس دولتهم, والقاضي في خصوماتهم, ولم يكن معه ملك أو حاكم يقوم بأمور السياسة, كما كان يحدث ذلك في بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم " ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " (البقرة:246)، "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا " (البقرة:247).
وكان الخلفاء الراشدون ورسول الله (صلى الله عليه وسلم), هم أئمة المسلمين في الصلاة ورؤساؤهم في الإدارة والسياسة, وكذلك كان من بعدهم من خلفاء بني أمية والعباس؛ ولهذا عرف العلماء, الخلافة بأنها: "نيابة عامة من رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" .
وهذا المفهوم الإسلامي من " الدين" يجب أن يسود ويشيع في المجتمع المسلم, حتى يمكن بعدها محاكمة كل مسلم إلى دينه الذي ألزمه وآمن به ورضيه الله له, ورضيه عدما قاس كل الاعتبارات والتصورات والأقوال والأعمال بمقياس الدين, الذي لا يخطئ ولا يضل ولا ينسى.
د. يوسف القرضاوي
كما يتميز المجتمع المسلم بعقائده وشعائره، يتميز كذلك بأفكاره ومفاهيمه وتصوراته فالمجتمع المسلم تسوده أفكار ومفاهيم تحدد وجهة نظره إلى الأشياء و الأحداث والأشخاص والمواقف, والقيم والعلاقات. فهو يحكم على هذه الأمور كلها من زاوية الإسلام, وهو لا يستمد حكمه, ويستقي وجهة نظره إلا من مصادر الإسلام النقية, المصفاة من الشوائب والزوائد, التي تمثل رواسب العصور, وتؤكد التحرر من غلو الغالين, وتقصير المقصرين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين.
لقد حرص الإسلام منذ طلوع فجره على أن يصحح مفاهيم أبنائه, حتى تستقيم نظرتهم إلى الأمور والواقف, ويتحد تصورهم العام للأشياء والقيم . فلم يدعهم لشطحات الفكر, ولا انحرافات الهوى, فيزيغوا عن ا.لقصد, ويضلوا عن سواء الصراط , وتتفرق بهم سبل الباطل عن سبيل الحق. ولهذا دأب القرآن, كما د أبت السنة, على تصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة, والتصورات المنحرفة, التي تشيع في أذهان الناس.
فهم بعض الأعراب أن الإذعان مجرد إعلان وتظاهر، فنزل القرآن يصحح هذا المفهوم يقول " قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ".. إلى أن قال " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" (الحجرات:14 ، 15) وأشاع بعض أهل الكتاب من اليهود: أن البر أو التقوى هو الاهتمام برسوم معينة، وشكليات خاصة، ولهذا أقاموا الدنيا وأٌقعدوها حين تحول الرسول من بيت المقدس إلى الكعبة، وجعلها الله له قبله، فنزل القرآن يبين حقيقة البر والتقوى والدين الحق فقال "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"(البقرة:177)
وحسب بعض الناس أن طريق الإيمان إلى الجنة مفروش بالأزهار والرياحين لا فتنة فيه ولا اضطهاد ولا عذاب، فنزل القرآن يدرأ هذا الوهم، ويخطئ هذا الفهم إذ يقول " آلم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" (العنكبوت (1-3).. ويقول " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران:142).. " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة:214).
وتصور بعض الناس أن من قتل في سبيل الله قد مات، كما يموت الآخرون من البشر فينفي القرآن هذا الحسبان ويضع مفهوماً جديداً إذ يقول " وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ" (البقرة:154) ، " وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران:169). ومن الناس من يحسب أن التغيير المادي سبب التغيير في عالم النفس، فيقرر القرآن عكس ذلك، ويبين أن التغيير الروحي والمعنوي هو الأصل والأساس " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11)
ويصحح القرآن فكرة الناس عن الفوز والفلاح والخسران, فينقلها من دائرتها الضيقة في عقول جماهير الناس: الدائرة المادية الدنيوية العاجلة إلى دائرة أرحب وأخلد وأبقى , فيقول: " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور" (آل عمران:185)، " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ" (الأعلى:14-15) ، " قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" (الزمر:15) ويظن فريق من البشر أن النساء شياطين خلقن لغواية الرجال, وأن المرأة لعنة مجسمة وفتنة تمشى على الأرض, فينفى القرآن هذا الظن, ويقول " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم:21).
ويعتقد فئة من الناس أن الظلمة والنور أثران لإلهين مختلفين يصطرعان حتى تكون الغلبة في النهاية لأحدهما, فيبين القرآن أنهما أثران لخالق واحد وإله واحد " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور" (الأنعام:1) ، " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ً" (النبأ: 10-11 ) ، " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ" (القصص:71).
وهكذا ظل القرآن الكريم 23 عاماً يبين الحقائق ويزيف الأباطيل، ويصحح التصورات والمفاهيم. وجاءت السنة النبوية فكانت البيان والتفسير النظري والعملي للقرآن، وظل الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يصحح ويوضح، ويبني ويهدم حتى استقام للمجتمع المسلم تصوره، واتضحت مفاهيمه وأصبح على بينة من ربه وبصيرة من أمره، كما خاطب الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم) " قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108)
وصحح النبي (صلى الله عليه وسلم) مفاهيم كثيرة جداً لعل أهمها مفهوم الإيمان، فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، " ليس بمؤمن من بات شبعان وجارة جائع"، "الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" إلى أحاديث كثيرة جمعها أحد الأئمة ( البيهقى ) في مؤلف ضخم باسم " شعب الإيمان ",
ويضع الإسلام مفهوماً جديداً في قبول الأعمال, في فيربطها بمقاصدها ونياتها الباعثة عليها ويجعل موضع نظره هو القلب لا الجوارح " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهى القلب".
ويبين حقيقة الغنى فيقول " ليس الغنى عن كثرة العرض, إنما الغنى غنى النفس".
وحقيقة القوة, فيردها إلى قوة النفس لا إلى قوة الجسم " ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". وحقيقة المسكنة والمسكين, وينفى الصورة الفاشية عند جمهور الناس عن المسكين فيقول: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان, ولا اللقمة ولا اللقمتان, إنما المسكين الذي لا يجد عن بقية ولا ينظر له فيتصدق عليه, ولا يقوم فيسأل الناس". وفى رواية " إنما المسكين المتعفف". واقرءوا إن شئتم " لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا" (البقرة:273). ويبين الرسول ( صلى الله عليه وسلم) مقياس التفاضل بين الناس أفرادا´ وجماعات, وحصره في الإيمان والتقوى والعمل الصالح.
ورد المفاهيم الشائعة, من اعتبار الزينة, والجاه أو المال والغنى , أو الجنس والنسب, أو الضخامة والفخامة, أو ما شابه ذلك من مقاييس مادية دنيوية, " فرب أشعث مدفوع بالأبواب, لو أقسم على الله لأبره"، ورب فقير خير من ملئ الأرض من غنى مشهور , " ولا فضل لعربي على أعجمي , ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى"، "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، "يأتي الرجل العظيم السمين عندي يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة". ويبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) اختلال المقاييس في آخر الزمان فيقول " يأتي على الناس زمان يقال للرجل فيه: ما أظرفه, وما أعقله, وما أجلده, وما في قلبه مثقال حبة من إيمان".
أفكار الإسلام ومفاهيمه وتصوراته هي التي تعمل وحدها في المجتمع المسلم , وتسيطر على عقول بنيه, وتوجه أدبه وفنه, وثقافته وإعلامه, وتربيته وتعليمه. فكرة الإسلام عن الإنسان, وعن الحياة والدنيا, وعن المال والغنى والفقر, وعن التدين والبر والتقوى, وعن العدل والإحسان, وعن التقدم والتأخر, وعن التحضر والتخلف, وعن الزهد والقناعة, وعن الصبر والرضا.
فكرة الإسلام عن الرجل والمرأة والعلاقة بينهما.
فكرة الإسلام عن الغني والفقير والعلاقة بينهما.
فكرة الإسلام عن الحاكم والمحكوم والعلاقة بينهما.
فكرة الإسلام عن الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما .
هذه الأفكار وما شابهها يجب أن تكون هي الموجهة للمجتمع المسلم، المهيمنة عليه, دون غيرها من الأفكار والتصورات. وذلك لأن أفكار الإسلام ومفاهيمه هي وحدها المستقاة من المصدر الإلهي المعصوم فمصدرها " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود:1) وسنة رسول لا ينطق عن الهوى "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ" (النجم: 4 ).
ونتيجة لذلك كانت هذه الأفكار وحدها هي التي تتسم بالشمول والعمق والتوازن في تقويمها للأمور, ونظرتها إلى جميع العلاقات. ففكرة الإسلام عن الحياة هي الفكرة المتوازنة المعتدلة, التي تجعل الدنيا مزرعة للآخرة, وطريقا إلى دار الخلود, والطريق يجب ألا يشغل عن الغاية التي إليها تشد الرحال, ولكنه يجب أن يكون مريحا مزدانا بالأشجار والظلال, حتى يهون اجتيازه بمراحله على المسافرين.
فليست هي الفكرة المتشائمة القائلة: إن الحياة لعنة, وأن العالم شر, وينبغي التعجيل بفنائه بالتبتل والرهبانية والانقطاع عن الزواج, وعن الطيبات, كما يقول المذهب المانوي في فارس, وكما مارس ذلك رجال الرهبانية, في النصرانية, والفقراء في الهندوسية. وليست هي الفكرة الدهرية الملحدة, التي مضمونها: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، أرحام تدفع وأرض تبلع, وليس وراء ذلك بعث ولا حساب ولا جزاء.
وفكرة الإسلام عن الإنسان هي الفكرة المتوازنة المعتدلة, التي تنظر إليه على أنه مخلوق مكرم ذو طبيعة مزدوجة, فهو جسم وروح, أو هو روح يسكن في غلاف من الجسم, كما قال تعالى في خلق الإنسان الأول " إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (ص:70-71) ويجب أن يعطى الجسم حقه، والروح حقه من شريعة الإسلام.
فليست هي الفكرة المادية القائلة: إن الإنسان ليس إلا هذا الجسم بأجهزته وأعضائه، بلحمه ودمه وأعصابه وغرائزه ودوافعه، وليس وراء الجسم شيء آخر، فهي تنظر إلى الإنسان كما تنظر إلي العالم، فالعالم مادي ولا إله له، والإنسان مادي ولا روح فيه.
وليست هي الفكرة الروحية المسرفة التي تقول: إن الجسم شر ورجس، وإن الروح وحدها هي محل الطهر والسمو، فلا نجاة للإنسان، ولا خلاص إلا بتعذيب النفس وحرمانه ليتسنى للروح أن تصفو وتترقى وتتزكى. فليس بمجتمع مسلم صحيح الإسلام إذن: ذلك المجتمع الذي يشيع فيه مفهوم الحياة، كما هو عند الغربيين، ولا كما هو عند البوذيين. وليس هو الذي يتصور الإنسان تصور الروحيين المتشائمين، ولا تصور المادين المسرفين.
وليس بمجتمع مسلم صحيح ذلك الذي يفهم التقوى على أنها ترقع، ولحية تعفي ومسبحة تدار في اليد.. وإن لم يكن وراءها علم نافع ولا قلب خاشع ولا عمل صالح. وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يفهم التدين على أنه مجرد أداء الشعائر من صلاة وصيام وحج وعمرة.. ولإن كان يتعامل بالربا في تجارته، أو يدع المرء فيه زوجته مكشوفة الذراعين والساقين، أو يدع أولاده في المدارس التبشير والتنصير، أو يتركهم فريسة للمربيات الكافرات أو الفاسقات..
أو يرى المنكر ضارباً أطنابه في كل مكان، والفساد ناشراً ظلامه على كل وضع، وهو يقول: نفسي نفسي! مغفلاً فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد لمقاومة الباطل. وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يشيع فيه مفهوم العدل الاجتماعي على أنه نهب القناطر المقنطرة، ثم التصدق بدريهمات أو دوانق على بعض الفقراء والمحتاجين , مما جعل بعضهم يفهم خطأ عدالة الإسلام فيطلق عليها اسم " اشتراكية الصدقات".
وليس العدل أيضا هو نهب الأموال المملوكة - ملكية مشروعة من أصحابها الأغنياء - بزعم إعطائها للفقراء, وإن لم يصل إلى الفقراء منها نقير ولا قطمير , فهذا المفهوم - كذلك - للعدل الاجتماعي مفهوم خاطئ دخيل على فكرة الإسلام .
وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي ينظر إلى الفقير والغنى نظر الصوفي القائل: " إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين , وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجلت عقوبته"! وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي ينظر إلى المرأة على أنها أحبولة الشيطان وأخت إبليس, وأنها هي التي أخرجت آدم من الجنة - كما تزعم التوراة , وكما يعتقد اليهود والنصارى - وكما يظن للأسف كثير من المسلمين بحكم الثقافة المسمومة التي تلقوها في المدارس أو من أجهزة الإعلام .
وليس هو أيضا الذي يشيع فيه ذلك المفهوم الخاطئ عن مساواة الرجل بالمرأة مع أن فطرة الله خالفت بينهما , وجعلت للرجل القوامة , والمسؤولية "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (النساء:34)
إن الأفكار والمفاهيم التي تشيع في المجتمعات المنتسبة إلى الإسلام اليوم ألوان وأنواع شتى:
( ا ) بعضها من بقايا القيم والتعاليم الإسلامية الصحيحة, التي لا يزال لها أثرها في كثير من الأنفس والعقول, وخصوصاً بعد أن قام للإسلام دعاة وأعوان في بلاد شتى, يشرحون رسالته شرحا يرد إليها فطريتها وشمولها، ويدرأ الشبهات عنها.
( ب ) وبعضها من رواسب العصور الأخيرة التي تخف فيها الفكر الإسلامي في مختلف المجالات, ففقد الأصالة والإبداع, وأغلق باب الاجتهاد, وأصيب المسلمون بسوء الفهم للإسلام, كما ابتلوا بسوء التطبيق له كذلك.
( ج ) وبعضها من الروافد الأجنبية التي زحفت على ديار الإسلام , مع الاستعمار, والذي كان أكبر همه أن يغير أفكار المسلمين وتصورا تهم وأذواقهم , ليسهل عليه بعد ذلك لي زمامهم إلى الوجهة التي يريد.
وواجب المجتمع المسلم أن يطارد كل المفاهيم التي لا تستمد من الإسلام الصحيح, سواء أكانت من رواسب التخلف والانحراف عن الإسلام أم من الأفكار الغازية الوافدة مع المستعمر الغربي.
فمن النوع الأول فكرة كثير من المسلمين في كثير من الأقطار عن المرأة وعلاقتها بالرجل, ونظرتهم إليها باعتبارها مخلوقا ناقصا أو خطرا, يجب أن تظل حبيسة البيت حتى يؤويها القبر, لا ترى رجلا , ولا يراها رجل, ولا تخرج لعبادة أو عمل صالح أو علم نافع.
ومن النوع الثاني فكرة كثير من المسلمين, العصريين الذين تثقفوا بثقافة الغرب, بطريق مباشر أو غير مباشر, فاعتبروا خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها, من الحقوق المشروعة, ويعدون اختلاطها بالرجال الأجانب - بغير قيد ولا تحفظ - من الحرية المطلوبة. ويعتبرون القول بغير ذلك ضربا من الرجعية في التفكير, والتطرف في السلوك! والأفكار الأجنبية الدخيلة الآن هي التي تقلب وتسود لدى جمهور المتعلمين من خريجي الجامعات وغيرها. ومن أخطر المفاهيم التي لقنها إياهم الغزو الثقافي هو : مفهوم "الدين" كما يتصوره الغربيون.
فمفهوم الإسلام عن " الدين" دائرته ومداه، غير المفهوم السائد عند الغربيين حتى المتدينين منهم, إنه عندهم مجرد علاقة بين ضمير الإنسان وربه, لا علاقة له بشؤون الدولة وأنظمة المجتمع, ولهذا قامت الحياة الحديثة هناك على أساس الفصل بين الدولة والدين.
أما الإسلام فهو في نظر المسلمين منهج شامل ينظم شؤون الحياة كلها: من قضاء الحاجة إلى قيام الدولة, ومن أدب الأكل والشرب إلى نظام الاقتصاد وسياسة الحكم, ومن الصلاة والصيام إلى شؤون الحرب والسلم والعلاقات الدولية.
والشريعة الإسلامية هي الحاكمة على جميع أفعال المكلفين, لا يخرج قول ولا عمل عن سلطانها, وكل عمل صادر عن مكلف لا بد أن تعطيه الشريعة حكمه من الوجوب, أو الاستحباب أو الحرمة, الكراهة أو الإباحة, ومهمة الشريعة هي إخراج المكلف من اتباع داعية هواه إلى التقيد بأحكام الله.
ومصادر الشريعة فيها الوفاء كل الوفاء بتغطية جميع الوقائع والأحداث التي تمر بالبشر, بحسب ما احتوت من أصول وقواعد ونصوص.. "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل:89).
وقد كان الواقع التطبيقي للإسلام شاهداً معه على هذه الفكرة, فكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو المبلغ عن الله, والقائم بأمر الدين, وهو إمام المسلمين ورئيس دولتهم, والقاضي في خصوماتهم, ولم يكن معه ملك أو حاكم يقوم بأمور السياسة, كما كان يحدث ذلك في بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم " ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " (البقرة:246)، "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا " (البقرة:247).
وكان الخلفاء الراشدون ورسول الله (صلى الله عليه وسلم), هم أئمة المسلمين في الصلاة ورؤساؤهم في الإدارة والسياسة, وكذلك كان من بعدهم من خلفاء بني أمية والعباس؛ ولهذا عرف العلماء, الخلافة بأنها: "نيابة عامة من رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" .
وهذا المفهوم الإسلامي من " الدين" يجب أن يسود ويشيع في المجتمع المسلم, حتى يمكن بعدها محاكمة كل مسلم إلى دينه الذي ألزمه وآمن به ورضيه الله له, ورضيه عدما قاس كل الاعتبارات والتصورات والأقوال والأعمال بمقياس الدين, الذي لا يخطئ ولا يضل ولا ينسى.
الأربعاء أكتوبر 07 2015, 11:28 من طرف مهاجي30
» الفرض الاول علمي في مادة الأدب العربي
السبت نوفمبر 22 2014, 14:57 من طرف slim2011
» الفرض الاول ادب عربي شعبة ادب و فلسفة
السبت أكتوبر 18 2014, 06:35 من طرف عبد الحفيظ10
» دروس الاعلام الآلي كاملة
الثلاثاء سبتمبر 23 2014, 09:24 من طرف mohamed.ben
» دروس في الهندسة الميكانيكية
الخميس سبتمبر 18 2014, 04:37 من طرف nabil64
» وثائق هامة في مادة الفيزياء
الأربعاء سبتمبر 10 2014, 21:12 من طرف sabah
» طلب مساعدة من سيادتكم الرجاء الدخول
الجمعة سبتمبر 05 2014, 19:57 من طرف amina
» مذكرات الأدب العربي شعبة آداب و فلسفة نهائي
الجمعة سبتمبر 05 2014, 19:53 من طرف amina
» مذكراث السنة الثالثة ثانوي للغة العربية شعبة ادب
الثلاثاء أغسطس 19 2014, 07:29 من طرف walid saad saoud
» les fiches de 3 as* projet I**
الجمعة يوليو 11 2014, 11:51 من طرف belaid11